فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}.
في هذه الآية والآيات التي بعدها، تفصيل لما أجملته الآيتان السابقتان عليها، وهما قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
فهذا نوح عليه السلام، قد أرسله اللّه سبحانه، نذيرا إلى قومه، كما يقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [1: نوح].
ولقد أنذر نوح قومه، وبالغ في إنذارهم، فلم يستمعوا له، ولم يقبلوا منه قولا.. فلما يئس منهم لجأ إلى ربه شاكيا: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِرارًا وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا} [5- 7: نوح].
فلما بلغ به اليأس مداه، دعا ربه أن يأخذهم بعاجل ذنوبهم: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا} [26- 27: نوح].
وقد استجاب اللّه لنوح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي نادانا نوح مستغيثا بنا، فأجبناه.. فنعم المجيبون نحن، حيث يجد من يجيبه إلى طلبه.. ويمنحه نصرا عزيزا وفتحا مبينا.
فتباركت يا اللّه وتعاليت.. وخاب من طرق بابا غير بابك، ووجه وجها إلى غير وجهك!.
{وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ} أي دعانا نوح، فاستجبنا له، {وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي من البلاء العظيم، الذي أخذ الظالمين، وهو الطوفان!.
{وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ}.
وإذ كان المؤمنون هم أهله، وهم الذين نجوا من هذا الطوفان، فقد كان منهم ذريته التي بقي بها نسله، جيلا بعد جيل.
{وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}.
أي وتركنا عليه ثناء طيبا، باقيا في الأجيال من بعده.
{سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ}.
هو سلام من اللّه سبحانه وتعالى على نوح في مجتمعات الإنسانية كلها، يردده كل مؤمن باللّه، وبرسل اللّه.
{إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
أي بمثل هذا الجزاء الحسن نجزى أهل الإحسان من عبادنا، الذين آمنوا باللّه وعملوا الصالحات.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}.
أي بعد أن نجينا نوحا ومن معه، أغرقنا الذين حق عليهم القول منّا.
وقدّم نجاة نوح ومن معه، إظهارا للعناية به وبالمؤمنين.. إذ المطلوب أولا هو نجاتهم من هذا الكرب العظم.
هذا، والطوفان الذي أهلك به قوم نوح، ليس طوفانا عامّا شمل الدنيا كلها، وغطى وجه الأرض، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين.
وإنما هو- كما قلنا- طوفان إقليمى محدود.. وقد عرضنا لهذا الأمر بالتفصيل في سورة هود. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}.
أتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حلّ بالأمم المرسَل إليهم، وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرَة، بتذكير وتسلية من جانب الإِخبار عن الرسل الذين كذّبهم قومهم وآذَوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسول صلى الله عليه وسلم تثبيتًا ويُلْقِم المشركين تبْكيتًا.
وذكر في هذه السورة ست قصص من قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصيةً لها شبَهٌ بحال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته، ففي القِصص كلّها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها، ويجمعها كلّها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها.
واختير هؤلاء الرسل الستة: لأن نوحًا القدْوة الأولى، وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإِسلام، وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإِسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان، فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول.
ثم ذكر ثلاثة رسل تفرّعوا عنهم وثلاثتهم على ملّة رسل من قبلهم.
فأما لوط فهو على ملة إبراهيم، وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى.
وابتدى بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى.
وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله: {قال رب انصرني بما كذبون} [المؤمنون: 26]، وقوله: {قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا} الآيات من سورة [نوح: 21].
والفاء في قوله: {فلَنِعْمَ المُجِيبونَ} تفريع على {نادَانَا} أي نادانا فأجبناه، فحذف المفرّع لدلالة {فلنعم المجيبون} عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب من يقال فيه: نعم المجيب.
والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلَنِعْم المجيبون نحن.
وضمير المتكلم المشارَك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم.
وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيرًا للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحًا دعا فاستجيب له.
والتنجية: الإِنجاء وهو جعل الغير ناجيًا.
والنجاة: الخلاص من ضر واقع.
وأطلقت هنا على السلامة من ذلك قبل الوقوع فيه لأنه لما حصلت سلامته في حين إحاطة الضر بقومه نُزلت سلامته منه مع قربه منه بمنزلة الخلاص منه بعد الوقوع فيه تنزيلًا لمقاربة وقوع الفعل منزلة وقوعه، وهذا إطلاق كثير للفظ النجاة بحيث يصح أن يقال: النجاة خلاص من ضر واقع أو متوقع.
والمراد بأهله: عائلته إلاّ مَن حق عليه القول منهم، وكذلك المؤمنون من قومه، قال تعالى: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} [هود: 40].
فالاقتصار على أهله هنا لقلة من آمن به من غيرهم، أو أريد بالأهل أهل دينه كقوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه} [آل عمران: 68].
وأشعر قوله: {ونجَّيناهُ وأهلَهُ} أن استجابة دعاء نوح كانت بأن أهلك قومه.
و{الكرب} الحزن الشديد والغمّ.
ووصفه ب {العظيم} لإِفادة أنه عظيم في نوعه فهو غمّ على غم.
والمعنيّ به الطوفان، وهو كرب عظيم على الذين وقعوا فيه، فإنجاء نوح منه هو سلامته من الوقوع فيه كما علمت لأنه هول في المنظر، وخوف في العاقبة والواقع فيه موقِن بالهلاك.
ولا يزال الخوف يزداد به حتى يغمره الماء ثم لا يزال في آلام من ضيق النفَس ورعدة القَرّ والخوف وتحقق الهلاك حتى يغرق في الماء.
وإنجاء الله إياه نعمة عليه، وإنجاء أهله نعمة أخرى، وإهلاك ظالميه نعمة كبرى، وجُعل عمران الأرض بذريته نعمة دائمة لأنهم يدعون له ويُذكر بينهم مصالح أعماله وذلك مما يرحمه الله لأجله، وستأتي نعم أخرى تبلغ اثنتي عشرة.
وضمير الفصل في قوله: {هُمُ الباقِينَ} للحصر، أي لم يبق أحد من الناس إلا من نجّاه الله مع نوح في السفينة من ذريته، ثُم مَن تناسل منهم فلم يبق من أبناء آدم غيرُ ذرية نوح فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة.
وظاهر هذا أن من آمن مع نوح من غير أبنائه لم يكن لهم نسل.
قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا وُلده ونساءه.
وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلَك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} [هود: 40]، وهذا جار على أن الطوفان قد عمّ الأرض كلها واستأصل جميع البشر إلا مَن حملهم نوح في السفينة وقد تقدم خبره في سورة هود.
وعمومُ الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة، ومن قالوا إن الطوفان لم يعمّ الأرض فإنما أقدموا على إنكاره من جهة قصر المدة التي حددت بها كتب الإِسرائيليين، وليس يلزم الاطمئنان لها في ضبط عُمر الأرض وأَحداثها وذلك ليس من القواطع، ويكون القصر إضافيًا أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم.
وقد يقال: نسلّم أن الطوفان لم يعمّ الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تُترك ظواهر الأخبار لأجلها.
وزاد الله في عداد كرامة نوح عليه السلام قوله: {وتَرَكنا عليه في الآخِرِينَ} فتلك نعمة خامسة.
والتَرك: حقيقته تخليف شيء والتخلي عنه.
وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة، لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعدُ، طالَ مُكثها أو قصر، فكأنَّ زوالَها استرجاعٌ من معطيها كما جاء في الحديث: «لله ما أخذ وله ما أعطى» فشرَف الله نوحًا بأن أبقى نعمهُ عليه في أمم بعده.
وظاهر {الآخِرِينَ} أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم، وقرينة المجاز تعليق {عَلَيْهِ} ب {تركنا} لأنه يناسب الإِبقاء، يقال: أبقى على كذا، أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر، وعلى هذا لا يكون ل {تركنا} مفعول، وبعضهم قدّر له مفعولًا يدل عليه المقام، أي تركنا ثناء عليه، فيجوز أن يراد بهذا الإِبقاء تعميره ألف سنة، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحيّ إليه فوق ما هو متعارف.
ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم: {واجعل لي لسانَ صدْققٍ في الآخرين} [الشعراء: 84] فكان نوح مذكورًا بمحامد الخصال حتى قيل: لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحًَا وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم.
فجاء في سفر التكوين الإِصحاح التاسع: كان نوح رجلًا بارًّا كاملًا في أجياله وسار نوح مع الله.
وورد ذكره قبل الإِسلام في قول النابغة:
فألفيتَ الأمانة لم تخنا ** كذلكَ كان نوح لا يخون

وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله: {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا} [الإسراء: 3].
وذكر ابن خلدون: أن بعضهم يزعم أن نوحًا هو أفريدون ملك بلاد الفرس، وبعضهم يزعم أن نوحًا هو أوشهنك ملك الفرس الذي كان بعد كيومرث بمائتي سنة وهو يوافق أن نوحًا كان بعد آدم وهو كيومرث بمائتي سنة حسب كتب الإِسرائيلين.
على أن كيومرث يقال: إنه آدم كما تقدم في سورة البقرة.
ومتعلق {عَلَيْهِ} من قوله: {وتركنا عليه} لم يَحُم أحد من المفسرين حوله فيما اطلعت، والوجه أن يتعلق {عليه} بفعل {تركنا} بتضمين هذا الفعل معنى {أنعمنا} فكان مقتضى الظاهر أن يعدّى هذا الفعل باللام، فلما ضمّن معنى أنعمنا أفاد بمادته معنى الإِبقاء له، أي إعطاء شيء من الفضائل المدخرة التي يشبه إعطاؤها ترك أحد متاعًا نفيسًا لمن يُخليه هو له ويخلفه فيه.
وأفاد بتعليق حرف على به أن هذا الترك من قبيل الإِنعام والتفضيل، وكذلك شأن التضمين أن يفيد المضمَّن مفاد كلمتين فهو من ألطف الإِيجاز.
ثم إن مفعول {تركنا} لما كان محذوفًا وكان فعل {أنعمنا} الذي ضُمِّنه فعل {تركنا} مما يحتاج إلى متعلق معنى المفعول، كان محذوفًا أيضًا مع عامله فكان التقدير: وتركنا له ثناء وأنعمنا عليه، فحصل في قوله: {تركنا عليه} حذفُ خمس كلمات وهو إيجاز بديع.
ولذلك قدر جمهور المتقدمين من المفسرين {وتَرَكنا} ثناء حسنًا عليه.
وجملة {سَلامٌ على نُوححٍ في العالَمِينَ} إنشاء ثناء الله على نوح وتحية له ومعناه لازم التحية وهو الرضى والتقريب، وهو نعمة سادسة.
وتنوين {سَلامٌ} للتعظيم ولذلك شاع الابتداء بالنكرة لأنها كالموصوف.